إنه خلق القرآن ..

إنه خلق القرآن ..

د / مساعد بن عبد الله المحيا 

 

مع كل ما قدمته اليوم الحياة المدنية الحديثة وعلى الرغم من انتشار الوسائل التقنية الحديثة المتعلقة بالجوانب المعلوماتية الذي قادت إلى مفهوم عالم القرية الإلكترونية الأمر الذي أدى إلى أنواع من التواصل الاجتماعي والثقافي والفكري بين  المجتمعات المختلفة وبالتالي ظهور مفاهيم تتعلق بالوحدة الثقافية العالمية ؟ ، وضرورة القضاء على المعايير القيمية سواء الدينية أو المجتمعية … التي تعكس الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات والإسلامية منها بالذات ، ومن ثم العمل على إحلال ثقافات مغايرة لا تمت إلى الثوابت الرئيسية للأمة .. وذلك من خلال إثارة مجموعة من الموضوعات والقضايا .

وكان من أبرز القضايا التي نشطت مختلف الوسائل ولاسيما وسائل الاتصال الجماهيرية في الدعوة إليها خاصة في مجتمعاتنا الإسلامية ولا تزال كذلك قضية تحرير المرأة ،لاسيما في مقابل ما تصفه هذه الوسائل من أن المرأة تعيش ألوانا من الاضطهاد والظلم في بيئاتنا العربية والإسلامية ، وكان أشد ما يشتمل عليه ذلك الإشارة صراحة أو ضمنا إلى أن ثمة علاقة بين ذلك الوضع وبين الإسلام بتعاليمه التي سلبت المرأة حقوقها …!!؟؟.  .

لا إخال أن المقام مناسب لمناقشة تلك القضية  سواء من الناحية التاريخية أو الواقعية … ، غير أني أود الإشارة هنا إلى أن وسائل الاتصال وعلى نحو أخص القنوات التلفزيونية الفضائية لا تزال تجد في ذلك موضوعا مناسبا لتحقيق قدر من الجماهيرية عبر برامج حية تتضمن طروحات تعد في جملتها غريبة وخاطئة !! ،

إن من المؤسف أن تظل هذه البرامج تخلط كثيرا بين بعض الممارسات الخاطئة التي قد تقع من بعض الأفراد وفي بعض المجتمعات وبين أن تكون هذه الممارسات تعكس بالضرورة المفهوم الشرعي الصحيح لطبيعة وضع المرأة في المجتمع المسلم والعلاقة التي ينبغي أن تكون بينها وبين زوجها حقوقا وواجبات ..

وفي أثناء ذلك تأملت كيف تتعمد بعض هذه البرامج إغفال هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم و منهجه سواء في أقواله أو أفعاله من خلال تعامله في بيته مع زوجاته  وبناته أو توجيهه للمؤمنين لحسن المعاشرة والمعاملة . وهي جوانب تؤكد أن البشرية برغم ما بلغته من حياة مدنية واسعة لن تجد إكراما للمرأة أعظم مما منحتها إياه شريعة الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..

ويكفي أن أضرب هنا مثالا يؤكد حسن خلقه صلى الله عليه وسلم  وقيامه بحقوق المصاحبة وآداب المجالسة المؤكدة وطيب عشرته وجميل معاشرته لأهله وإيثاره إياهم على نفسه لاسيما لزوجه عائشة رضي الله عنها مما قد يبدوا غريبا أو جديدا لدى البعض !! ،  ذلك هو الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ( أَنّ جَاراً، لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَارِسِيّاً. كَانَ طَيّبَ الْمَرَقِ. فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ جَاءَ يَدْعُوهُ. فَقَالَ: «وَهَـَذِهِ؟» لِعَائِشَةَ.فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ». فَعَادَ يَدْعُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم «وَهَـَذِهِ؟» قَالَ: لاَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ». ثُمّ عَادَ يَدْعُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَهَـَذِهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. فِي الثّالِثَةِ. فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتّىَ أَتَيَا مَنْزِلَهُ ). أي يمشي كل واحد منهما في أثر الآخر   

ولعل توقف الفارسي في الإذن لعائشة ثلاثا محمول على أن الدعوة لم تكن لوليمة وإنما صنع الفارسي طعاما بقدر ما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم  وحده وعلم حاجته لذلك فخشي الفارسي إن إذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسد حاجته .

 أما امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من إجابته فقد حمل على وجود عذر يمنع وجوب إجابة الدعوة فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا بين إجابته وتركها فاختار أحد الجائزين وهو تركها إلا أن يأذن لعائشة فلما أذن لها اختار صلى الله عليه وسلم  الجائز الآخر ويحتمل أن عائشة كانت حاضرة عند الدعوة  – قبل نزول الحجاب – فلذلك أمتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الإجابة إلا أن يدعوها لما كان بها من الجوع أو علم حاجتها لذلك الطعام بعينه أو أحب أن تأكل معه منه لأنه كان موصوفا بالجودة ولم يعلم مثله ولثقة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى سيبارك في هذا الطعام  فقد كره  الاختصاص بالطعام دونها لوجود المصلحة وحصول ما كان يريده من إكرام جليسه وإيفاء حق معاشرته ومواساته ،  وحيث كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن لا يراجع بعد ثلاث لذلك رجع الفارسي عن المنع .

إنه مثال حي يعكس جانبا من عمق المودة والرحمة التي كان يتصف بها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم   {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ}  وهو مع ذلك غيض من فيض خلقه إذ كان ( خلقه القرآن ) وهديه في بيته مع زوجاته وبناته الذي نتوق ونتطلع إلى أن يكون سلوكا ينتهجه كل مسلم مع أهله …

لذا كم نحن بحاجة ماسة إلى تتبع هذه الجوانب الدقيقة فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم في كل كتب السنة وجمعها لتكون نبراسا لكل مؤمن ومؤمنة ولكي يدرك الكثيرون وعلى نحو أخص كل من يقوم على تلك البرامج الإذاعية والتلفزيونية أن ثمة فرقا كبيرا بين أن تكون طبيعة العلاقة التي تقوم بين كل زوجين مصدرها ما جاء عن الشارع وبين أن يكون ذلك نتيجة عادات وعوامل بيئية وتربوية .. لا صلة لها بما جاء عن الله عز وجل ولا رسوله  .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*